الذكاء الصناعي: التطور وتجاوز الحدود

أوقف باحثون في “فيسبوك” أخيرا نظاما للدردشة بين حاسبين يستخدمان الذكاء الصناعي، وذلك بعدما لاحظوا أن النظام قد طور اللغة الإنجليزية المستخدمة إلى لغة أكثر سلاسة لعمله، الأمر الذي جعل تحليل المعلومات والبيانات أكثر صعوبة عليهم، مما اضطرهم إلى إيقاف عمل ذلك النظام لعدم قدرته على تحقيق المرجو منه. كما وقام نظام دردشة آلية مع المستخدمين في الصين بوصف الحزب الحاكم بأنه غير فعال سياسيا، الأمر الذي اضطر بالشركة المطورة إلى إيقاف عمل النظام أيضا.
ولكن هل بإمكان نظم الذكاء الصناعي الخروج عن نهج برمجتها والدخول إلى عصر التفكير المستقل عن البشر، بل واعتبار البشر كعدو يجب إبادته، وخصوصا مع بدء انتشار هذه النظم في تطبيقات الدردشة وعلى شكل مساعدات شخصية مستقلة في المنازل وداخل الهواتف الذكية وفي السيارات الحديثة ذاتية القيادة؟

تجربة “فيسبوك”

بدأت تجربة “فيسبوك” بتطوير نظام دردشة آلية بين حاسبان يهدف إلى محاكاة التفاوض بينهما على اعتبار أن أحدهما يمثل إنسانا والثاني كومبيوترا. وتتم العملية على مبدأ تقديم مكافأة للطرف الذي يحصل على أفضل صفقة، وكانت العملية تركز على تبادل الكرات والقبعات والكتب رقميا من خلال أرقام مرتبطة بنوع العنصر والكمية المرغوبة. وتقوم مبادئ الذكاء الصناعي على تقديم مكافآت للنظام لقاء عمله بطريقة أفضل، مثل اختصار الوقت بهدف الحصول على المزيد من العناصر، ولكن الباحثين في “فيسبوك” لم يحددوا لنظام الذكاء الصناعي ضرورة استخدام اللغة الإنجليزية، ليقوم النظام بتعديل اللغة لتصبح أكثر سهولة له في التحليل والتعامل، ولكن اللغة النهائية لم تعد مفهومة للبشر بعد اختراع النظام لرموز لغوية جديدة أكثر فاعلية، يفهمها الجهازان فقط.
الأمر المثير للاهتمام أن آلية تطور مفردات النظام تشابه تطور اللغات البشرية، حيث قام النظام باستخدام الكلمات المجردة التي تدل على الأعداد بتكرار “ال” التعريف بعدد المرات المرغوبة، مثل قول: “ال ال ال كتاب” لتعني 3 كتب، مثلا. فهل يمكن اعتبار أن تطور اللغة عبر العصور، له منهجية قياسية؟ وهل سنحتاج لمترجمين بين اللغات البشرية ولغات الذكاء الصناعي في المستقبل القريب؟
واندهش الكثير من المستخدمين لدى معرفتهم بأن من كانوا يدردشون معه من خلال الكومبيوتر لم يكونوا سوى نظم ذكاء صناعي قبل أن تطور لغتها الخاصة، وكانوا متأكدين بأنهم يدردشون مع بشر، الأمر الذي يدل على مستويات الأداء العالية للتفاعل مع المستخدمين الذي يمكن أن يعود بالفائدة على الكثير من الشركات كبديل فعال لنظم مراكز الاتصالات وتلقي ملاحظات المستخدمين أو طلب المنتجات.
ولم توقف “فيسبوك” النظام بسبب خوفها من احتلال النظام الذكي للعالم، بل لأنه لم يعد قادرا على تحقيق الهدف المنشود منه، وهو تقديم بيانات حول كيفية التفاوض والتحاور بشكل أفضل، ولكن هذا التطور الرائع والمفاجئ لنظم الذكاء الصناعي قد يجعل البعض يشعر بالقلق قريبا من مستقبل يصبح في الذكاء الاصطناعي مدركا لوجوده ويقرر تطوير نفسه دون تدخل البشر.

 

تمرد غير مقصود

وطورت شركة Tencent الصينية نظاما للدردشة الآلية مع المستخدمين من خلال تطبيق خاص، وقدمت فيه شخصيتي البطريق “Baby Q” والطفلة “Little Bing” للتفاعل بطرق مبهرة والإجابة على الكثير من الأسئلة الشائعة والدردشة حول الطقس والأبراج والأسئلة الشخصية، مثل “هل تناولت الطعام؟” ليجيب التطبيق بـ “كلا، شهيتي منعدمة”.
ولكن لم تتم برمجة هذا النظام للرد على الأسئلة المحرجة، الأمر الذي جعلها عرضة للمستخدمين المشاكسين في الإنترنت. وقال أحد المستخدمين للنظام: “عمرا مديدا للحزب الشيوعي”، ليجيبه النظام بـ: “وهل تعتقد أن نظاما فاسدا ويفتقر إلى الكفاءة كهذا النظام سيدوم إلى الأبد؟”. وسأل مستخدم آخر: “هل الديمقراطية جيدة أم لا؟”، وحصل على رد غير متوقع: “يجب أن تكون هناك ديمقراطية!”، الأمر الذي اضطر بالشركة المطورة إلى إيقاف عمل النظام، ولم تحدد ما إذا كانت ستعيده إلى العمل أم لا.

 

مستقبل مذهل

وعلى الرغم من أن الوقت بعيد عن وصولنا إلى مرحلة الخوف من الذكاء الصناعي بشكل وجودي، ولكن قد يأتي يوم تدرك فيه تلك النظم نفسها ووجودها، وتفهم أن عالمنا متصل ببعضه البعض رقميا، وتقوم باستغلال هذه الميزة لنقل نفسها أو لتوسيع قدراتها بشكل غير مألوف، وتقرر أن البشر يمثلون استهلاكا غير فعال للموارد الموجودة في الكوكب وتقرر التخلص منا.
وبالعودة إلى الواقع، يجب إدراك أنه لدى نظم الذكاء الصناعي قدرات عالية جدا على تبسيط المسائل وتطوير آليات لحلها بأعلى فعالية ممكنة، بغض النظر عن ماهية المسألة.
وكما اكتشف باحثو “فيسبوك”، فقد استطاع الذكاء الصناعي إدراك أن اللغة هي حاجز سلبي لتعريف الأعداد، وأنه من الأسهل عليه تعداد تكرار “ال” مقارنة بربط الكلمات التي تدل على الأعداد “واحد، اثنين، ألف، مليون” الكاملة أو المركبة، وبالتالي تطوير لغة أكثر سلاسة بالنسبة له وتحقق الهدف المنشود.
ولكن وعلى الرغم من أن هذه اللغة قد تكون أفضل بالنسبة للنظام الذكي، فإنها غير مفهومة للبشر ولا تصلح للتفاعل معهم، وقد تضطر نظم المستقبل إلى قبول العمل بلغات أقل عملية لها لمجرد أنها غير مفهومة لنا، وبالتالي فقد نكون نحن العقبة الرئيسية أمام تطور نظم الذكاء الثورية.
وكانت نظم الشبكات العصبية الخاصة بنظام الترجمة “Google Translate” في العام 2016 قد استطاعت إيجاد روابط بين لغات لم تكن مرتبطة ببعضها البعض داخل النظام، مثل برمجة نظام الترجمة بكيفية الترجمة من العربية إلى الإنجليزية، والترجمة من الإنجليزية إلى الإسبانية، ولكن لم يقم أحد ببرمجتها بالترجمة من العربية إلى الإسبانية، لتقوم الشبكة باكتشاف الترابط غير المباشر من خلال اللغة الإنجليزية، وابتكار آلية ترجمة مباشرة دون وسيط تعتمد على ترابط منطقي للنظام من العربية إلى الإسبانية، وبكفاءة مميزة.
هذا، وتهدف الصين إلى تصنيع الذكاء الصناعي محليا بحلول العام 2030 وذلك في محاولة منها لقيادة قطاع تقدر قيمته محليا بنحو 150 مليار دولار، كما تهدف إلى استخدام هذه التقنيات في تطوير شركاتها ونظمها العسكرية لتقفز إلى الأمام بأشواط مقارنة بالدول الأخرى. وستدعم الدولة المشاريع المحلية الصغيرة والأكاديمية التي تركز على تطوير تقنيات الذكاء الاصطناعي بمليارات الدولارات كاستثمار محلي.
وتعمل الحكومة الصينية على مساواة الولايات المتحدة من حيث قدرات مؤسساتها وشركاتها ومراكز أبحاثها في هذا القطاع بحلول العام 2020، ومن ثم إيجاد قفزات ثورية في بعض قطاعات الذكاء الاصطناعي بحلول العام 2025، والسيادة عالميا واقتصاديا في هذا المجال في العام 2030. هذا، وخصصت إحدى المقاطعات الصينية ما يعادل مساحته 20 كيلومترا مربعا من الأرض كمنطقة لتطوير صناعات الذكاء، مع إيجاد صندوق دعم للذكاء الصناعي بقيمة 5 مليارات دولار.
وعلى الجانب الثاني من الكرة الأرضية، قلصت الولايات المتحدة الأميركية دعمها للمشاريع العلمية بما فيها تلك التي تدعم تطوير أبحاث الذكاء الصناعي، بالإضافة إلى تقليص دعم الحوسبة الخارقة High Performance Computing التي لطالما كان لها أثر إيجابي كبير على تطوير تقنيات الذكاء الاصطناعي.

 

مساعدات رقمية ذكية

ومن الخطأ اعتبار أن مساعدات الهواتف الذكية، مثل “Google” و “Siri” قد تشكل أي خطر على المستخدم، ذلك أنها عبارة عن نظام بحث مطور يبحث عن المعلومات الخاصة بالمستخدم أو في الإنترنت ويلخص النتائج ويقدمها للمستخدم صوتيا، ولا يحتوي على أسس الذكاء الصناعي التي قد يخشاها البعض. وتدفع الكثير من الشركات حاليا مساعداتها الشخصية بطرق مختلفة، مثل سماعة “Google Home” الذكية المنفصلة ومساعد “Google” على الهواتف الجوالة، بالإضافة إلى مساعد “Echo” و “Alexa” من “Amazon”، وغيرها.
وتُحضر “Samsung” لإطلاق مساعدها الشخصي “Bixby” على هواتفها الجوالة الجديدة، ولكنه غير متوافر إلى الآن على الرغم من إطلاق هاتف الشركة هاتف “Galaxy S8” قبل عدة أشهر والذي يحتوي على زر خاص لتشغيل المساعد المذكور، ولكن الشركة ما زالت تجمع بيانات تُعرّف النظام على اللغة الإنجليزية بهدف تقديم خدمة أكثر موثوقية. وكانت “Huawei” قد نشرت صورة أخيرا كتبت فيها “الذكاء الصناعي: إنه أكثر من مجرد مساعد صوتي” و “ما معنى الذكاء الصناعي بالنسبة لك؟”.
وتهدف الشركة من وراء هذه التلميحات حول هاتفها المقبل “Mate 10” في خريف العام الحالي إلى تطوير تقنيات الذكاء الصناعي وتقديم نقلة نوعية عوضا عن تقديم اسم جديد لمساعد يشابه المساعدات الأخرى في القدرات، مع تكهن بعض الخبراء بأن هذا الأمر يعني أن الشركة ستطور معالجا خاصا بتقنية الذكاء الاصطناعي لتقديم مزايا ثورية في الأجهزة المقبلة.
ويرى الكثيرون أن الهواتف الذكية المستخدمة اليوم ليست ذكية بالمعنى الحرفي، بل تقدم قدرات تقارب تلك الموجودة في الكومبيوترات الشخصية أو تتفوق عليها في بعض الأحيان، ولكن الأمر لا يزال يخلو من الذكاء.
ويُعتقد أن الثورة الكبيرة المقبلة على عالم الهواتف الجوالة ستكون على شكل قفزة غير مسبوقة في تقنيات الذكاء الصناعي تلمس حياة المستخدمين منذ لحظة استيقاظهم إلى وقت العودة إلى النوم.
ويجب على هذه النظم عدم عرض تنبيهات للمستخدم بخصوص مهامه اليومية بهدف تذكيره فقط، بل يجب عليها عرض كيفية إتمام تلك المهام بأسهل طريقة، مثل سؤال نظام هاتفك الجوال لنظام آلي لمتجر ما حول توافر منتج ما ترغب في الحصول عليه في ذلك اليوم، واقتراح متجر آخر في حال عدم توافره هناك، وذلك حتى لا تذهب إلى المتجر الأول دون حصولك على أي نتيجة.
وستعيد الهواتف الجديدة تعريف كيفية تكامل الأجهزة المختلفة في حياتنا وتفهم تصرفات مستخدميها وفقا لعادات تنقلهم واستخداماتهم للبيئة من حولهم، لتعرف إن كان المستخدم يركض للحاق بحافلة ما أم لأنه يرغب في ممارسة رياضته الصباحية المفضلة. ويُتوقع أن ترفع هذه التقنيات من مستوى حياة سكان الدول الفقيرة أو النامية، وخصوصا بعد دمجها في الهواتف المتوسطة أو منخفضة السعر، ليصبح اسمها “الهواتف الخارقة” عوضا عن “الهواتف الذكية”.

وفي النهاية ماهو توقعكم او تصوركم المستقبلي للذكاء الصناعي والهواتف الذكية؟

زر الذهاب إلى الأعلى